"الرباط المقدس" للفنانة هبة خليفة
تقول المخرجة الأمريكية كاثلين ترنر:
"لايزال هناك بعض السيدات اللواتي لا يعشن حياتهن الخاصة، ولكنهن يعيشن من
خلال حياة أزواجهن وأطفالهن"
وهذا تماما ما ثارت ضده إبريل في فيلم
"الطريق الثوري". يبدأ الفيلم بداية صاخبة، حيث يضعنا مباشرة في قلب الأزمة
التي تعاني منها إبريل بطلة الفيلم. يبدو كل شيء مثير للإحباطات في تلك
البلدة الصغيرة الهادئة. فإبريل التي درست المسرح لا تجد فرقة مسرحية في
تلك البلدة سوى فرقة هواة سيئة، تضطر أن تمثل معهم المسرحيات لإنها لا تجد
بديل. ثم تصب غضبها على زوجها ثم نعرف إنه كان سببا في إنتقالهم هناك.
بعد مرور العاصفة تتذكر إبريل رحلة زوجها
لباريس ورغبته في أن يعود إليها مرة أخرى. وتفكر لماذا لا ينتقلوا للعيش
هناك. تبدو المقارنة هنا بين مدينة صاخبة محبة للفنون والأضواء وكل ما تسري
الحياة به وبين واقع محشور بين تروس عجلة الرأسمالية الطاحنة التي تدهس كل
أشكال الحياة.
يوافق زوجها في البداية على الإنتقال إلا
أن خوفه من مواجهة نفسه الخاوية ومن التغيير يجعله يتراجع عن قراره. ويفكر
في إن استقرارهم في تلك البلدة الهادئة أهم من الحياة التي ترغب إبريل في
رؤيتها. في الحقيقة لم تكن إبريل تريد أن ترى الحياة، ولكنها ترغب في
الشعور بها، أرادت أن تحيا من جديد وتنقذ نفسها من وطأة الحياة الميتة
الرمادية التي أرغمتها، في النهاية، على الرحيل.
كان حمل إبريل هو ما إستند عليه زوجها
ليرفض السفر إلى باريس، وكان هو ما جعل إبريل نفسها تفكر في عمق الهوة التي
سقطت بها. إنها أم لطفلين تشعر إن قدومهما كان خطأ رغم حبها لهما ولكنهما
كانا عبأ ثقيلا بجانب خوائها الداخلي. والآن تكرر نفس الخطأ وتستعد لجلب
طفل آخر لحياتها. تسأل زوجها بعد أن قررت إجهاض نفسها "هل تريد حقا طفلا
آخر؟"، يصمت قليلا ثم يقول "لا يوجد أم طبيعية تقتل طفلها من أجل حلم".
لم يشر الفيلم إلى حالة إبريل النفسية بشكل
واضح، وعندما عرض عليها زوجها الذهاب إلى طبيب نفسي، فضلت الصمت وإنهاء
النقاش. ولكني أعتقد أن الكثير من مشكلات المرأة بعد الزواج وإنجاب الأطفال
تتقاطع مع اضطرابات "اكتئاب ما بعد الولادة".
عندما قام سيجموند فرويد في بداية تسعينات
القرن التاسع عشر بممارسة أول معالجة معاصرة لإكتئاب ما بعد الولادة، كان
يرى أن العلاج يتلخص في طلب المساعدة من المحيطين والتعبير عن المشاعر.
وهذا ما كان نواة لمعالجة اضطرابات المرأة في الطب النفسي الحديث.
وقد كشفت دراسة أجرتها جامعة ميتشجان
الأمريكية عن أن أم واحدة من كل خمسة أمهات تعاني من أعراض الاكتئاب عند
بداية حملهن. وقد يشعرن بالاكتئاب في فترات مختلفة من حياتهن بعد الولادة.
وتتلخص الأعراض في اضطرابات النوم وصعوبة التركيز ونقص في الطاقة والشعور
بالخواء وعدم الإستمتاع بأشياء كن يستمتعن بعملها من قبل، وازدياد في
الشهية أو فقدانها تماما، بجانب شعورهن بالذنب والخزي وقد يصل الأمر إلى
التفكير في الرحيل أو الإنتحار. وتزداد تلك الأعراض في أي مرحلة من حياة
الأم، بمعنى إنه ليس اكتئاب مصاحب لحالة الولادة فحسب بل إنه قد يمتد لعدة
سنوات بعدها.
وتنعكس تلك الاضطرابات على المنزل بأكمله،
فتشير الدراسات إلى أن الطفل الرضيع إذا لم يستشعر الدفء والسعادة على
ملامح أمه، فإنه يصاب بالضيق والإحباط. وفي نفس الوقت تجد الأم نفسها مشتتة
ومهملة في احتياجات الطفل. ومن ثم تشعر بالذنب الرهيب.
تقول آن شيفلد مؤلفة كتاب (التغلب على إرث
اكتئاب الأمومة): "تشعري إنك في حالة مزرية غير محتملة، وفي حالة سبات
عميق، كما إنك غير قادرة على الشعور بالسعادة أو الحماسة. كما أن الأمهات
المحبطات يقمن بإخفاء شعورهن لإحساسهن بالعار بالإضافة إلى أن أزواجهن لن
يكون في إمكانهم تفهم شعورهن".
في فيلم "الساعات" المأخوذ عن رواية بنفس
الإسم، تحاول شخصية لارا براون أن تتغلب على تعاستها وتصنع قالب من الكيك
مع إبنها ريتشارد ولكنها تفشل في ذلك وتضطر إلى التخلص منه، ثم تقوم بصنع
آخر. بعدها تترك ريتشارد في صحبة إحدى الجارات وتتجه إلى فندق ما، ورغم
إنها حامل، تفكر في الإنتحار. إلا إنها تعود أدراجها إلى المنزل لتحتفل
بعيد ميلاد زوجها مع الإبن. ونعرف في نهاية الفيلم إنها رحلت عن أسرتها بعد
ولادة إبنتها. هكذا، تركت أبنائها مع زوجها وسافرت إلى كندا لتعيش حياتها
من جديد. وبعد عودتها لحضور جنازة إبنها الذي اختار الإنتحار بعد إصابته
بمرض الإيدز، قالت لمضيفتها إنها لن تعتذر عما فعلته وإنها تعلم أن زوجها
وابنتها الذين رحلا عن الحياة أيضا لم يغفروا لها ما حدث ولكنها معهم كانت
ميتة وإختارت الحياة.
في عام 2001 سنحت الفرصة للسيدة رانا ريكو
ريزوتو لتسافر إلى اليابان لمدة ستة أشهر لتؤلف كتاب عن ضحايا القنبلة
النووية. وشعرت رانا بالسعادة لتشجيع زوجها لها وإصراره على سفرها وتأكيده
لها إنه سيرعى أطفالهما، ولدان كانت اعمارهما حين ذاك 3 و5سنوات. ولكن
أثناء سفرها بدأت الخلافات تسري بينهما وفشل زواجهما بعد علاقة دامت عشرين
عام. وبدلا من أن ينتقل زوجها من المنزل، قامت هي بالإنتقال على بُعد عدة
بنايات تاركة أطفالها برعاية الأب. ولكنها لم تتوقف قط عن رؤيتهما وعن
مشاركتهما الحياة.
بعد ترويج كتابها "هيروشيما في الصباح" في
الولايات المتحدة الأمريكية، قامت وسائل الإعلام بإثارة قصتها للجمهور،
الذي أطلق عليها "المرأة الأسوأ من هتلر". كانت تتلق رسائل كراهية في
بريدها الإلكتروني على مدار الساعة كما إنها تلقت رسائل تهديد.
تقول رانا: قال الناس لي أن أطفالي سينتهي
بهم الأمر كقتلة بسبب قولي أني لم أرغب يوما أن أكون أم. كما قيل لي إني
(خُلقت فحسب لأخلق). وعبرت بعض السيدات عن استيائهن قائلين أن جريمتي لم
تكن قولي أني لا أريد ان أكون أما، فالعديد من النساء لا يريدن ذلك، ولكن
جريمتي تكمن في الإعتراف بهذا الأمر.
وتضيف رانا: لم تكن مشكلتي مع الأطفال أبدا
ولكن كانت مع معتقداتنا عن الأمومة. وكيف يكون الرجل الذي يقوم برعاية
أطفاله طوال الوقت قديس ولكن الأم ما هي سوى أم فحسب. وننكر أن هناك طرق
أخرى للأمومة... كان علي أن أترك أطفالي لأجدهما. فلقد خشيت أن أتحول إلى
الأم التي تكد طوال الوقت وتضع كل شخص حولها في قائمة أولوياتها وتنسى
نفسها. ما حاولت أن أقوله لأطفالي هو كيف يواجهوا مخاوفهم وكيف يقوموا
بتغييرها إذا اضطروا إلى ذلك بدلا من الإستسلام.
وهكذا يمكننا أن ندرك لماذا لم ترحل إبريل
فحسب؟ لماذا لم تسافر إلى باريس وتترك أطفالها مع الأب؟ من المحتمل إنها لم
تكن قوية بشكل كاف حتى تتخذ تلك الخطوة وإنها ستشعر بالذنب ولكن المؤكد أن
وصمة العار كانت ستلاحقها طوال حياتها، فعندما يرحل الأب من أجل حياة أفضل
أو من أجل حب أخر لا ينعته أحد بإنه "أسوأ من هتلر".
في فيلم "شيرلي فالنتين" المأخوذ من مسرحية
بنفس الإسم، تقوم شيرلي بمحادثة حائط مطبخها طوال الوقت حتى لا تنسى
الكلام. فلقد كبر إبنها وترك المنزل وزوجها لا يكاد يشعر بوجودها حوله.
فتتخذ من الحائط صديقا لها بل إنها تمازحه في بعض الأوقات. ثم تأتيها دعوة
من صديقة لها للسفر إلى اليونان بصحبتها، فتترك المنزل والزوج وتسافر دون
حتى أن تخبر إبنها بقرارها. وهناك، باليونان، تبدأ في الشعور بسريان الحياة
من جديد في شرايينها، وكل ما تطلبه من النادل اليوناني هو أن يسمح لها بأن
تضع طاولتها على البحر في الليل وتحتسي الشراب. وفي نهاية الفيلم، يسافر
زوجها إليها ليحضرها ولكنه لا يتعرف عليها عند رؤيتها، لقد قامت من بين
الأموات وتبدلت هيئتها للأجمل. عندما تراه شيرلي، لا تطلب منه شيئا سوى أن
يجلس بجانبها على الطاولة وينظر للبحر. كان البحر بإتساعه مثل تعويض عن
كآبة الحائط التي أمضت أيامها في محاولة لحملها على الكلام.
هنا، في تلك البقعة المظلمة من العالم، لا
نعرف الكثير عن كل هذا. ليس لدينا ثقافة نفسية، ولا نعترف بإحباطات
الأمومة. ولا تملك الأم إلا أن تدفن عمرها أسفل أقدام أطفالها.فأكثر ما
يؤلمني في نظرة أمي لراقصات الباليه على شاشة التلفزيون، هو ذلك الشغف
بحياة لم ولن تعيشها. نظرات التمني .والحسرة المصاحبة لأمرأة في أواخر عقدها
الخامس. أكثر ما يؤلمني هو أن "تطلع البنت لأمها" وترث تلك الزفرات والأعين الحزينة
نُشر في موقع قُل - فبراير 2014