.

.

Saturday, January 4, 2014

فستان بنفسجي

بينما تعدين طبق المكرونة.. تكتشفين في كل مرة طعم مختلف تماما. الطعم لا يثبت أبدا أيا كانت الوصفة التي تستخدمينها، وأيا كانت درجة إحكامها.

يوضح لي هذا كيف أني أعد وصفة السعادة الخاصة بالغد، كل غد، وأنام وهي أسفل مخدتي في أمان. ثم لا أصحو في الميعاد المذكور في الوصفة، تمتد ساعات نومي لأكثر من 12 ساعة.. أتمنى أن أنام للأبد، 
لا أصحو.. 
لا أموت.. 
لا أتلاشى، 
فقط أنام إلى ما لا نهاية.

يسري لأذني صوت إبنتي تنادي من داخل سريرها المرتفع الجوانب، وتعود السلاسل تشدني للأرض مرة أخرى، نعم أحبها بشدة، بل أني أصاب بالبله في حضرتها، أنظر لملامحها الجميلة جدا، الصغيرة التي لا أستطيع أن أتخيل كيف تكوَن مثل هذا الجمال بداخل أحشائي يوما ما.. أنظر إليها بتمعن، وأتساءل من أين جاءت؟ أشعر إنها معجزة ولكني مشوشة فيما يخص المعجزات.

أتخيلها في بعض الأحيان أختي الصغيرة، واتشاجر معها وكأني طفلة أصغر منها.. أشد الألعاب من يدها بعنف وأغني معها أغانيها الساذجة في سعادة، حتى أني نسيت الأغاني التي كنت أحبها، لمن كنت أستمع قبل أن تأتي؟

الصورة الذهنية الأقرب لي هي إنها كانت محلقة فوق سحابة ما فوق منزلي وإلتقطتها أنا قبل أن تسقط على الأرض. ولكني في أحلامي المتقطعة، أرى خيط رفيع للغاية، يتلوى ويتأرجح بطفولية ومرونة مدهشة وكأنه يسبح بسلاسة داخل بحر أسود به بعض الدوامات البيضاء المشوشة. إنها هي على شاشة السونار، كانت ترقص باليه وتطير داخل رحمي بينما أسمع النبضان يتسارعان وكأنهما يتشاجران أيهما سيسبق الآخر.

في كل يوم، كما المكرونة، أشعر أن الملح ناقص، فأضعه ولكنه لا يعطيني النكهة المطلوبة. فأضح الفلفل الأسود وأعطس بعنف عدة مرات ثم ألقي بالطبخة بأكملها في كيس بلاستيك وأطوحه أمام الجيران.
ثم أطلب الدليفري وأصاب بالغم عندما أعلم أني أنفقت اليوم أكثر من المفروض، وأتمنى أن أنام لأنسى، وأعاود النظر لإبنتي. 

ترهقني الهمزات دائما. قبل أن أكتب أي كلمة تبدأ بـ ألف، أضع قبلها الفاء وأستهجى كطفل صغير، أين الهمزة الآن؟ فوق أم أسفل؟
وأتأمل جسدي في المرآة، فأجد حبة صغيرة في ثديي الأيمن، أشعر بالفزع، هل هو ورم ما؟ هل هذا هو الوقت المناسب لأجري الفحص الذاتي أم أنتظر عدة أيام ليكون الموعد مناسب؟

كما أجد بقعة جرداء صغيرة بين خطوط شعري الكثيف، وعلى حوافها بعض الشعر الهائش الناشف بشكل شاذ عن باقي الشعرات. هل كبرت لهذا الحد؟ الحد الذي معه أعدد أمراضي أمام المرآة، حتى أني لست في حاجة للبحث عنها أو تخيلها، إنها هنا، ذات حضور قوي،  فحسب.

كلما نظرت لوجهي بدون حجاب، اتذكر نوال السعداوي. لا أحب أن أهتم بشعري كثيرا، لا أحب أن أمشطه، أحبه مهوش مشوش مجنون. أعتقد أن شعري هو أكثر ما يعبر عن ماهيتي الداخلية.. الهوية التي أخفيها عن الأعين، أغلق الأبواب فوقها لا عليها. هوية غجرية حرة لا تقبل المساومة إطلاقا. أحبسها فقط، لأني أخاف منها، وأعرف أني لن أستطيع أن أدفع ضريبتها. لن يكون معي ما يكفي من الأموال!

لماذا إذن أتوق لخلع حجابي؟ لقد نسيت منذ زمن، أو ربما لم أتعلم يوما، أن أهتم بشعري. ولا أريد أيضا الإهتمام بشعر إبنتي ولكنها في كل صباح تطلب مني تمشيطه ووضع التوك. لا يا عالية، كوني غجرية ولن أحبسك، ولكنها تأبى بعنف مستقل تماما عن ملامحها الصغيرة القادمة من السحاب.

بعد إنتهاء موجة "هنلبس فساتين" التي اطلقتها البنات الثائرات، رأيت من شباك التاكسي على الطريق الدائري بالقاهرة، شباك صغير ثبتت سيدته أطراف فستانها البنفسجي القصير المحكم الأكمام على إطاره، لتمنع الهواء من التدفق للداخل. كان الجو باردا في تلك الأيام، ويبدو إنها لا تملك شيئا آخر تحمي به أسرتها من السقيع سوى هذا الفستان البديع. تساءلت هل كانت ترتديه فيما مضى ولكنها سمنت كثيرا فلم يعد يدخل بجسدها؟ هل توفى زوجها وأصبحت لا تهجر السواد؟ هل ماتت صاحبته وإستخدمه زوجها؟ وددت بشدة أن أوقف التاكسي على أي جانب من الطريق.
كنت لأصعد درجات السلم الضيقة لعمارة جديدة ولكنها بالغة الشحوب وكأنها أصيبت بمرض مفاجيء لم يشخصه الأطباء بعد. وأطرق على الباب، ستفتح لي بلا شك فتاة صغيرة وبفمها علكة صغيرة، ضفيرتها وراءها ممتدة لأسفل الظهر، وأطرافها رفيعة غير مشذبة. سأدخل بهدوء وثقة إلى الردهة البالغة الصغر. أخطو فوق سجاد رخيص الثمن، لم تفلح المساحيق والفرشاة الخشنة أن تزيل بقع الزمن من فوقها ومع ذلك بدت نظيفة وأصبحت البقع كشامات الحسن، صغيرة متناثرة بعشوائية إلا إنها ينقصها الإبتسامة.
لن ألقي التحية على الرجل الجالس بملابسه الداخلية أمام التلفزيون وأمامه الجريدة، لن أنظر إليه وهو يتجشأ من شدة دهشته من جرأتي.
سأدلف مباشرة إلى المطبخ الصغير الخانق. وسأطفيء البوتجاز وأزيح طاسة الزيت من فوقه حتى لا يحترق الباذنجان. وأمسك يد المرأة وأنا ابتسم في ود.
سأسحبها برفق دون أن أتكلم للحجرة الثانية البعيدة عن المطبخ، للحجرة التي كانت يوما ما مخدع للحب، تحولت الآن إلى مشاع لبناتها اللاواتي لا يبرحن المنزل أثناء الأجازة الصيفية أبدا لشدة خجلهن من صدورهن الناهدة، او لرفض الأب نزولهن حتى لا يراهن شباب النواصي.
سأدع المرأة للوقوف أمام مرآتها التي صارت سوداء من قلة نظر الأعين لها. وسأخلع الفستان البنفسجي المثبت بالمسامير القصيرة. وأجلب الوردة الحمراء من شنطة يدي وأثبتها على صدره.
ساتركها تخلع ملابسها المكفهرة ألوانها، وتخلع بلوفر زوجها الذي لم يعد يرتديه وأستغلته هي في الشتاء، ثم سأساعدها في إرتداء الفستان البديع. وسأرفع خصلات شعرها لأعلى ببنسها السوداء. وسأضع لها الكحل والروج الأحمر. ولن أدعها ترى إنتفاخ بطنها وتهدل صدرها الواضح تحت ضغط القماش. غالبا ساتمنى لو أني أحمل برا بوش أب في حقيبتي لأساعدها في نفخ ثدييها ورفعهما قليلا.
ثم سأخرج بها للردهة، وسألقي التحية على المتجشأ السمين وسأقبل الفتاة ذات العلكة، ثم سأنزل معها السلالم الضيقة وسنركب التاكسي مرة أخرى ونطلب منه أن يسير نحو السماء.

لماذا لا أستطيع المشي على الحوائط مثل العناكب؟ كنت لأمشي على واجهات البنايات الجميلة والقبيحة، لأتفرج على البلكونات. أنا أحب البلكونات، وأكره السواقة لأنها تحرمني من الفرجة عليها. أحب البلكونات في إمبابة ومن فوق كوبري غمرة. كل بلكونة تحكي حكاية عن القاطنين خلف جدارها. ولذلك لا أحب المدن الجديدة، لأن بلكوناتها باردة، مدهونة للتو بدهانات لامعة نظيفة لا تحمل أي لمسات أنسانية، لا تحمل أيا من أنفاس أصحابها.
أدرك الآن لماذا أريد شراء منزل بدون بلكونات، لأني توقفت منذ زمن عن ترك أنفاسي في مكان ما، ربما توقفت عن التنفس ولكن لم يتم إعلامي بعد.

Egon Schiele: Mother and Child (Madonna), 1908

No comments:

Post a Comment