.

.

Thursday, January 23, 2014

نظرات أمي 1

 أكثر ما يؤلمني في نظرة أمي لراقصات الباليه على شاشة التلفزيون، هو ذلك الشغف بحياة لم ولن تعيشها. نظرات التمني والحسرة المصاحبة لأمرأة في أواخر عقدها الخامس.
أكثر ما يؤلمني هو أن "تطلع البنت لأمها" وترث تلك الزفرات والأعين الحزينة.

شارع به قضبان


كاد عقلي أن يستسلم لفكرة السبات العميق التي أحاول أن أقحمها به منذ عدة ساعات. ولكني سمعت فجأة صوت صافرة قطار تقترب. فنهضت مسرعة متوجسة من هلوستي التي تزايدت كثيرا في الآونة الأخيرة.
ولكني وجدت قطار حقيقي واقفا تحت شرفتي، قطار قديم تبعث من مقدمته الأدخنة. نزل الركاب منه في هدوء، وأدركت إنهم نياما من مشيتهم المترنحة. ولكن صاح بهم رجلا يبدو أن عقله عنيدا مثلي ولم يستسلم للنوم؛ أن هذه ليست محطتهم!
وثارت جلبة بين المترجلين والنوم لا يزال يداعب جفونهم. فأخرج السائق نصفه الأعلى من نافذته ليستكشف الأمر.
ثم ظهرت عليه علامات التردد والشك عندما رأى البنايات الجميلة المتراصة في قبح. ثم نظر إلى الطريق فلم يجد القضبان وتذكر أن قطاره في إمكانه السير على الرصيف أيضا.
عاد لمساعده ليتأكد إذا كان قد غفا فخرج القطار عن مساره؟ ولكن المساعد لم يفيده بشيء. وأخبره إنه كان مشغولا بالنظر لجانب الطريق ليشاهد البحر. هرش السائق شعره محاولا تذكر إذا كان يمر مسار هذه الرحلة بمحاذاة البحر أم لا؟
زادت الضجة، وخاف السائق من شكوى الركاب فتضيع علاوته السنوية! فخرج إليهم لتهدئتهم.
لم يجد أحد يستطلع منه الأمر سواي. فسألني هامسا: أين نحن؟ جاوبته بصوت منخفض إنني لا أعرف تحديدا ولكن يبدو لي إنكم في المكان الخاطيء.
نظر إلى في تفهم ثم سألني عن نهاية الرصيف، فأخبرته أن الرصيف ينتهي بعد 100 متر ولا يوجد غيره في ذلك المكان.
فأدرك إنه لن يستطيع السير بقطاره هنا وعاد ليسأل الرجال من الركاب المشورة. وبعد مناقشات طويلة، قاموا بإدخال السيدات والأطفال إلى العربات، بينما حمل الرجل القطار فوق أكتافهم وعادوا أدراجهم من حيث جاءوا. بحثا عن شارع به قضبان.

حلم بكيت بعده

كان أبي حزينا، واقفا في سكون وظهره للحائط. اقتربت منه بحذر وأنا أشعر بثقل سؤالي عن أحواله. لم نعتاد على مثل تلك الأمور، فنحن دوما نكتفي فحسب بأن كلانا يعلم أن الآخر بخير وكفى، بدون عواطف زائدة.
ولكني تغلبت على ترددي وسألته عن حزنه، فقال بإستنكار وعتاب إنه حزين لأني لم أرى وردته الذي زرعها. سخرت في سري من وردته تلك التي لا يتحدث عن سواها في الأيام الأخيرة، إلا أني جاريته برقة وأخبرته عن رغبتي في رؤيتها.
شعرت بالفرحة تسري في قسمات وجهه وفشلت رزانته في إخفائها. وأدركت أني كنت أهم شخص لديه في تلك اللحظة.
أحضر عود أخضر طويل، كان مثل شجرة صغيرة تشبه عود الشبت وعلى جانبها ورد صغير للغاية لم يزهر بعد. كنت مبتهجة ومندهشة من تلك المشاعر التي سرت بيننا فجأة بعد كل هذا العمر الطويل.
وسألته بعد أن تذكرت للتو إننا زرعنا معا منذ سنوات طويلة ورد كان يعيش لأسبوع فقط ثم يموت، هل هذا ما زرعناه من قبل؟ فأجاب نعم، إنه هو ثم رحل. خرج من الشرفة بهدوء وتركني بمفردي. نظرت للشجرة الصغيرة التي صارت ضخمة وطويلة جدا فجأة حتى إنها لامست السحاب بأطرافها.
وقد تفتحت الأزهار المتراصة على جانبيها وبدأت الأمطار في السقوط. كان كل شيء رائق بشدة وامتزجت حبات المطر بموسيقى كونية تشبه السيمفونيات، لم أعرف مصدرها ولكنها كانت تنبعث من كل مكان.
كان أحدهم بجانبي ولكني لم أتبين ملامحه جيدا، كنت منشغلة تماما بالشجرة وأخذت ألوح بها في السماء وأداعب المطر وأنا أراهن على أن قوته لن تثني الغصن أو تمزق اوراقه الوافرة التي لا تزال تشبه الشبت.
وما إن انتهى المطر، حتى توقفت الموسيقى الكونية عن العزف. ورفعت يدي أحيي أوركسترا السماء وأنا ممتنة. وأنظر للشجرة التي زرعها أبي وترعرعت بين كفوفي، ولكني لم أعد أراه في أي مكان.

Saturday, January 4, 2014

فستان بنفسجي

بينما تعدين طبق المكرونة.. تكتشفين في كل مرة طعم مختلف تماما. الطعم لا يثبت أبدا أيا كانت الوصفة التي تستخدمينها، وأيا كانت درجة إحكامها.

يوضح لي هذا كيف أني أعد وصفة السعادة الخاصة بالغد، كل غد، وأنام وهي أسفل مخدتي في أمان. ثم لا أصحو في الميعاد المذكور في الوصفة، تمتد ساعات نومي لأكثر من 12 ساعة.. أتمنى أن أنام للأبد، 
لا أصحو.. 
لا أموت.. 
لا أتلاشى، 
فقط أنام إلى ما لا نهاية.

يسري لأذني صوت إبنتي تنادي من داخل سريرها المرتفع الجوانب، وتعود السلاسل تشدني للأرض مرة أخرى، نعم أحبها بشدة، بل أني أصاب بالبله في حضرتها، أنظر لملامحها الجميلة جدا، الصغيرة التي لا أستطيع أن أتخيل كيف تكوَن مثل هذا الجمال بداخل أحشائي يوما ما.. أنظر إليها بتمعن، وأتساءل من أين جاءت؟ أشعر إنها معجزة ولكني مشوشة فيما يخص المعجزات.

أتخيلها في بعض الأحيان أختي الصغيرة، واتشاجر معها وكأني طفلة أصغر منها.. أشد الألعاب من يدها بعنف وأغني معها أغانيها الساذجة في سعادة، حتى أني نسيت الأغاني التي كنت أحبها، لمن كنت أستمع قبل أن تأتي؟

الصورة الذهنية الأقرب لي هي إنها كانت محلقة فوق سحابة ما فوق منزلي وإلتقطتها أنا قبل أن تسقط على الأرض. ولكني في أحلامي المتقطعة، أرى خيط رفيع للغاية، يتلوى ويتأرجح بطفولية ومرونة مدهشة وكأنه يسبح بسلاسة داخل بحر أسود به بعض الدوامات البيضاء المشوشة. إنها هي على شاشة السونار، كانت ترقص باليه وتطير داخل رحمي بينما أسمع النبضان يتسارعان وكأنهما يتشاجران أيهما سيسبق الآخر.

في كل يوم، كما المكرونة، أشعر أن الملح ناقص، فأضعه ولكنه لا يعطيني النكهة المطلوبة. فأضح الفلفل الأسود وأعطس بعنف عدة مرات ثم ألقي بالطبخة بأكملها في كيس بلاستيك وأطوحه أمام الجيران.
ثم أطلب الدليفري وأصاب بالغم عندما أعلم أني أنفقت اليوم أكثر من المفروض، وأتمنى أن أنام لأنسى، وأعاود النظر لإبنتي. 

ترهقني الهمزات دائما. قبل أن أكتب أي كلمة تبدأ بـ ألف، أضع قبلها الفاء وأستهجى كطفل صغير، أين الهمزة الآن؟ فوق أم أسفل؟
وأتأمل جسدي في المرآة، فأجد حبة صغيرة في ثديي الأيمن، أشعر بالفزع، هل هو ورم ما؟ هل هذا هو الوقت المناسب لأجري الفحص الذاتي أم أنتظر عدة أيام ليكون الموعد مناسب؟

كما أجد بقعة جرداء صغيرة بين خطوط شعري الكثيف، وعلى حوافها بعض الشعر الهائش الناشف بشكل شاذ عن باقي الشعرات. هل كبرت لهذا الحد؟ الحد الذي معه أعدد أمراضي أمام المرآة، حتى أني لست في حاجة للبحث عنها أو تخيلها، إنها هنا، ذات حضور قوي،  فحسب.

كلما نظرت لوجهي بدون حجاب، اتذكر نوال السعداوي. لا أحب أن أهتم بشعري كثيرا، لا أحب أن أمشطه، أحبه مهوش مشوش مجنون. أعتقد أن شعري هو أكثر ما يعبر عن ماهيتي الداخلية.. الهوية التي أخفيها عن الأعين، أغلق الأبواب فوقها لا عليها. هوية غجرية حرة لا تقبل المساومة إطلاقا. أحبسها فقط، لأني أخاف منها، وأعرف أني لن أستطيع أن أدفع ضريبتها. لن يكون معي ما يكفي من الأموال!

لماذا إذن أتوق لخلع حجابي؟ لقد نسيت منذ زمن، أو ربما لم أتعلم يوما، أن أهتم بشعري. ولا أريد أيضا الإهتمام بشعر إبنتي ولكنها في كل صباح تطلب مني تمشيطه ووضع التوك. لا يا عالية، كوني غجرية ولن أحبسك، ولكنها تأبى بعنف مستقل تماما عن ملامحها الصغيرة القادمة من السحاب.

بعد إنتهاء موجة "هنلبس فساتين" التي اطلقتها البنات الثائرات، رأيت من شباك التاكسي على الطريق الدائري بالقاهرة، شباك صغير ثبتت سيدته أطراف فستانها البنفسجي القصير المحكم الأكمام على إطاره، لتمنع الهواء من التدفق للداخل. كان الجو باردا في تلك الأيام، ويبدو إنها لا تملك شيئا آخر تحمي به أسرتها من السقيع سوى هذا الفستان البديع. تساءلت هل كانت ترتديه فيما مضى ولكنها سمنت كثيرا فلم يعد يدخل بجسدها؟ هل توفى زوجها وأصبحت لا تهجر السواد؟ هل ماتت صاحبته وإستخدمه زوجها؟ وددت بشدة أن أوقف التاكسي على أي جانب من الطريق.
كنت لأصعد درجات السلم الضيقة لعمارة جديدة ولكنها بالغة الشحوب وكأنها أصيبت بمرض مفاجيء لم يشخصه الأطباء بعد. وأطرق على الباب، ستفتح لي بلا شك فتاة صغيرة وبفمها علكة صغيرة، ضفيرتها وراءها ممتدة لأسفل الظهر، وأطرافها رفيعة غير مشذبة. سأدخل بهدوء وثقة إلى الردهة البالغة الصغر. أخطو فوق سجاد رخيص الثمن، لم تفلح المساحيق والفرشاة الخشنة أن تزيل بقع الزمن من فوقها ومع ذلك بدت نظيفة وأصبحت البقع كشامات الحسن، صغيرة متناثرة بعشوائية إلا إنها ينقصها الإبتسامة.
لن ألقي التحية على الرجل الجالس بملابسه الداخلية أمام التلفزيون وأمامه الجريدة، لن أنظر إليه وهو يتجشأ من شدة دهشته من جرأتي.
سأدلف مباشرة إلى المطبخ الصغير الخانق. وسأطفيء البوتجاز وأزيح طاسة الزيت من فوقه حتى لا يحترق الباذنجان. وأمسك يد المرأة وأنا ابتسم في ود.
سأسحبها برفق دون أن أتكلم للحجرة الثانية البعيدة عن المطبخ، للحجرة التي كانت يوما ما مخدع للحب، تحولت الآن إلى مشاع لبناتها اللاواتي لا يبرحن المنزل أثناء الأجازة الصيفية أبدا لشدة خجلهن من صدورهن الناهدة، او لرفض الأب نزولهن حتى لا يراهن شباب النواصي.
سأدع المرأة للوقوف أمام مرآتها التي صارت سوداء من قلة نظر الأعين لها. وسأخلع الفستان البنفسجي المثبت بالمسامير القصيرة. وأجلب الوردة الحمراء من شنطة يدي وأثبتها على صدره.
ساتركها تخلع ملابسها المكفهرة ألوانها، وتخلع بلوفر زوجها الذي لم يعد يرتديه وأستغلته هي في الشتاء، ثم سأساعدها في إرتداء الفستان البديع. وسأرفع خصلات شعرها لأعلى ببنسها السوداء. وسأضع لها الكحل والروج الأحمر. ولن أدعها ترى إنتفاخ بطنها وتهدل صدرها الواضح تحت ضغط القماش. غالبا ساتمنى لو أني أحمل برا بوش أب في حقيبتي لأساعدها في نفخ ثدييها ورفعهما قليلا.
ثم سأخرج بها للردهة، وسألقي التحية على المتجشأ السمين وسأقبل الفتاة ذات العلكة، ثم سأنزل معها السلالم الضيقة وسنركب التاكسي مرة أخرى ونطلب منه أن يسير نحو السماء.

لماذا لا أستطيع المشي على الحوائط مثل العناكب؟ كنت لأمشي على واجهات البنايات الجميلة والقبيحة، لأتفرج على البلكونات. أنا أحب البلكونات، وأكره السواقة لأنها تحرمني من الفرجة عليها. أحب البلكونات في إمبابة ومن فوق كوبري غمرة. كل بلكونة تحكي حكاية عن القاطنين خلف جدارها. ولذلك لا أحب المدن الجديدة، لأن بلكوناتها باردة، مدهونة للتو بدهانات لامعة نظيفة لا تحمل أي لمسات أنسانية، لا تحمل أيا من أنفاس أصحابها.
أدرك الآن لماذا أريد شراء منزل بدون بلكونات، لأني توقفت منذ زمن عن ترك أنفاسي في مكان ما، ربما توقفت عن التنفس ولكن لم يتم إعلامي بعد.

Egon Schiele: Mother and Child (Madonna), 1908

Friday, January 3, 2014

حيث مكان لا شيء بعده

The namesake

يبدأ فيلم "الإسم المماثل" للمخرجة الهندية ميرا نير بحادثة قطار. كان أشوك جالسا بصحبة رواية للكاتب الروسي جوجول. ثم يتبادل حديث ودي مع رفيق السفر الذي لا يعرفه. وينصحه الأخير أن يسافر ليجوب العالم بنفسه ولا يكتفي بقراءة الكتب فقط، وبعدها ينقلب القطار، لتكون نقطة تحول في حياة أشوك.
يحكي الفيلم عن قراره، بعد نجاته من الحادث، بالهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. يتزوج من أشيما ثم يصطحبها لنيويورك ليكونا الجيل الأول المهاجر للأسرة الهندية الصغيرة.
ثم يبدأ الفيلم مباشرة في إلقاء الضوء على مشاكل الأسرة المهاجرة. تركز الكاميرا على نظرة أشيما للثلج الكئيب من شرفتها، وجهلها بالغسالات العامة وخجلها من التعامل مع المحيطيين بها. لا تندمج الأسرة في المجتمع بسهولة، ونجدها تلجأ إلى المجتمع الهندي بالجالية الهندية بنيويورك. وكأنهم يحملوا مكانهم بداخلهم ولم يتمكنوا أبدا من إغفال ذلك.
وتزداد المشكلات وضوحا مع الإبن الذي أطلق عليه أبيه إسم جوجول تيمنا بالكاتب المفضل له.
عانى جوجول من غرابة إسمه الذي كان انعكاس لغربته في المجتمع الأمريكي المختلف تماما عن أسرته، حتى إنه يقوم بتغيير إسمه ولا يعود لذكره أبدا سوى بعد وفاة والده. ولكنه في نفس الوقت لم يشعر بأي ألفة عند زيارته للهند. لم يحب الشوارع ولا الحر الشديد ولم يفهم سر خوف جدته عليه من أن يسير في الشارع بمفرده وتوقف كثيرا أمام الإزدحام الشديد في بلدته، وكل ما أراده هو وأخته أن يعودا لموطنهما بأمريكا.
كان أشوك ممتنا لذلك الحادث الذي فتح أمامه الرغبة في السفر والتعرف على ثقافة مختلفة كما نصحه رفيق سفره حينذاك، ولكننا وعلى طول الفيلم نلمس خواء أشيما وحزنها الهاديء وكيف إنها أخذت الكثير من الوقت حتى اعتادت على العيش في تلك المدينة البعيدة تماما والمختلفة عن ثقافتها. ومحاولات أشوك الدائمة  لمساعدتها وحثها على العيش بسلاسة أكثر.
حاول جوجول الإرتباط بفتاة أمريكية، في غمرة بحثه المستمر عن هوية له. ولكنه يدرك عمق الهوة بينهما عقب وفاة والده المفاجئة. حتى إنه لا يدعوها لحضور طقوس الدفن ويخبرها إنها تقاليد خاصة بالعائلة فقط.
وتأخذه الحياة ليرى فتاة بنغالية هندية عائدة للتو من منحة دراسية بباريس، ويهيم بها ويتزوجا، ولكنها تعاني من آثار التغيرات الثقافية التي خلفتها هجرة أسرتها أيضا. وتدرك إنها لا تريد أن تكون زوجة لرجل هندي منغلق على التقاليد الهندية، وتختار أن تعود لحبيب فرنسي قديم، وتستأنف بحثها عن هوية لها كذلك، كيان لم تجده في الحياة الأمريكية ولا في المجتمع الهندي.


من أجمل مشاهد الفيلم، عندما قام أشوك باصطحاب ابنه جوجول إلى لسان صخري طويل ممتد إلى داخل المحيط. كان يريد تصويره وسط الأمواج التي كانت تضرب نهاية اللسان من كل جانب، ولكنه نسى الكاميرا بالسيارة.
فقال لجوجول:
نسيت الكاميرا، أتينا كل هذه المسافة بدون فائدة... أريدك أن تتذكر هذا للأبد يا جوجول.

أتذكر ماذا؟

أن تذكر دوما إننا أتينا سويا إلى مكان حيث لا شيء بعده... تعدني؟

أعدك يا أبي


الفيلم ماخوذ عن رواية للكاتبة الأمريكية هندية الأصل جومبا لاهيري الحائزة على جائزة البولتزر عام 2000 عن مجموعتها القصصية مترجم الأوجاع. تحمل الرواية نفس عنوان الفيلم، وقد رشحت لجائزة أورانج للآداب في عام 2004. ثم تحولت إلى فيلم في عام 2006.

Thursday, January 2, 2014

بونجور يا هانم

الرابعة صباحا

أشعر بألم في حلقي ينذرني بإقتراب موسم الحساسية الموسمية لصدري. أحاول تجاهله في البداية ولكن تزايده يجعلني أذهب لدولاب خزيني لأبحث عن ما يمكن عمله في مثل تلك الظروف. لا أجد سوى بعض باكيتات الينسون الذي أكرهه ولكن لا بديل له.
أجد الأكياس مخرومة أخرام صغيرة دائرة الشكل بإنتظام، أبحث كالمجنونة عن حشرة ما دلفت إلى الدولاب في خلسة مني وهمت بإلتهام مخزوني ولكني لا أجد شيئا!
أؤكد لنفسي إنه الرطوبة وإن العلبة مركونة منذ وقت طويل وبلا بلا بلا...، وإنها حتى لو حشرة فإني مضطرة إلى شرب الينسون لأُنهي هذا الألم ولو بشكل مؤقت.
أتذكر أن الكاتيل قد حدث به عطب ما وأني ألقيت به في القمامة. فأضع البراد الزجاجي ذو اليد البلاستيكية على النار وذهبت لأبحث عن شيء ما مفقود. وعندما أرتطمت رائحة بلاستيك يحترق بأنفي جريت نحو المطبخ، وأدركت علو النار الزائد وذوبان يد البراد.
أدركت من صميم قلبي إنها كوب ينسون ملعونة، وأن الحساسية لن تتجنبني هذا العام!

الحادية عشر مساءا

تخاف عالية من كل شيء الآن، تخاف من صوت سيارة مارة بالشارع، تخاف من صوت كرسي يتحرك بالطابق الأعلى، تخاف من صوت الماء المتدفق بقوة من صنبور ما.
كنت أعمل ومستغرقة تماما، طلبت مني أن أجلب لها الموز. فاخبرتها إنه في المطبخ ويمكنها أن تذهب لتحضره ببساطة. قالت إنها خائفة ولن تذهب بمفردها. ودار هذا الحوار بيننا:
أنا خايفة 
ليه يا عالية؟ أنتي قوية زي الأسد ومش بتخافي 
هو الأسد مش بيخاف؟
لأ، الأسد قوي عشان بياكل أكله كله
هو الأسد بياكل ايه عشان يبقى قوي؟
الأسد بيخلص طبقه، رز وفراخ وسلطة
بس أنا شفته في التلفزيون بياكل الخروف كله
(صمت)
أيوة، هو عشان سمع كلام مامته، فراحت جابت له لحمة كتير
هي بعصبية شديدة:
لأ، انتي بتضحكي علي، هو جري ورا الخروف وموته وأكله، ما تضحكيش علي تاني

أدركت أني في مأزق، أنا الآن أم كاذبة. تركت عملي لأول مرة منذ أن بدانا هذا الحديث الشيق، ونظرت إليها نظرة متوسلة أن ترحمني من شكوكها نحوي، ثم اعتذرت في هدوء شديد وأخبرتها أن الأسد قوي لذلك يبحث عن طعامه بنفسه وإنها إذا أكلت طعامها مثله، فسأسمح لها بشراء خروف صغير لنلتهمه سويا فيما بعد.
حسن هذا الأجواء قليلا، وقمت أنا إلى المطبخ لأجلب لها أصابع الموز!

الثامنة مساءا

كلما هممت إلى الصلاة، قمت بإستبعاد سورة الماعون. ولكن بمجرد شروعي في الصلاة وانتهائي من الفاتحة أجدني أرتل "أريت الذي يكذب بالدين..." حتى أصل إلى "فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون" وأجدني أخفض صوتي عندها، لا أريد أن أسمعها.
أتذكر أني أصلي حاليا العشاء وأني لم أصلها بالأمس ولا أمس الأول. وأحاول جاهدة أن أقرأ باقي السورة سريعا حتى أهرب من وخز الضمير.
ترن في أذني كلمات سنية هانم عندما قال لها داوود باشا  في مسلسل حديث الصباح والمساء "بونجور يا هانم".. فردت عليه:
أنهي بونجور يا باشا.. بونجور بتاعة النهاردة، ولا بتاعة إمبارح.. ولا بتاعة الإسبوع ال فات؟

أنهي عِشاء يا هانم؟ أكاد أسمع الملائكة تتساءل!