.

.

Wednesday, April 8, 2015

الجميلات الخاسرات

لم أكن طفلة جميلة. عينان جاظتان ووجه نحيل هادئ غير مميز. أسير بقدماي التي تشبه عيدان الكبريت فأثير سخرية الجميع. كان المثل الشعبي "يا وحشة كوني نغشة" يتردد حولي كثيرا ولكني لم أك يوما "نغشة" ولم أحاول.
ترددت قليلا في ذلك الصباح البارد قبل أن أرد التحية. كنت أرتدي نظارة شمسية الفاخرة. أقف أمام سيارتي الصغيرة. كان الشارع الضيق لايزال ساكنا وكل الجيران في سبات عميق. ظهرت جارتي من بوابة البيت المقابل لبيت عائلتي. وأدارت وجهها لي مبتسمة بإجفال وقالت "صباح الخير". في البداية لم أتعرف عليها، فلقد مرت سنوات دون أن ألمحها بالشارع في زياراتي القليلة بعد زواجي.
ولكني تعرفت عليها عندما أمعنت النظر. تذكرت الطفلة البيضاء البضة التي طالما قارنت أمها بين قبحي وبين جمالها. كانت فتاة جميلة ممتلئة الجسد، غير متفوقة دراسيا مثلي ولكن هذا لم يكن بوابة للعبور إلى أي شئ في ذلك الحي الشعبي القديم.
تتفاخر بشعرها الكثيف في شرفتها. وتسابقني لحب محمد، ابن الجيران الوسيم، الذي طالما راقبته بقهر من وراء الشبابيك، والذي سيرحل بعد ذلك بسنوات قليلة بسبب السرطان. تقول أمها إنها الأجمل من كل بنات الشارع. وتعبر عن هذا بأن "الحلوة حلوة لو قامت من النوم، والوحشة وحشة لو استحمت كل يوم".
كنت أعرف أن فرص حصولي على انتباه محمد قليلة بجانب تلك الحسناء التي تنير شرفتها ببياضها الأخاذ. وتذكرت قول جدتي السمراء "ياريتني يا أمه كنت بيضة وبضة، أصل البياض يا أمه عند الرجال يتحب". كانت جارتي المرشحة الأولى لكل خطاب الشارع وكل الشوارع.
عندما رأيتها في ذلك الصباح البارد، كانت نحيلة. ضربتها الشمس بسمرة شديدة. ولم أعد أنا تلك النحيلة الخجولة التي كنتها. نظرت لوجهها من وراء نظارتي. لم أستطع رد التحية على الفور. فرأيت "أوصة" كثيفة توارت وراء الحجاب وجسد تعدى الثلاثون بقليل دون أي وصال مع الجنس الأخر، رغم كل مراهنات الأم وتحقيرها من شأني وشأن الأخريات الأقل جمالا. رأيت نظرة يأس شاحبة وخيبة أمل في الحياة. وأنا أعلم تماما إنها لم تر سوى أمرأة ميسورة الحال، زوجة وأم، تنظر لها باستخفاف وتعالي من وراء نظارة غالية الثمن. وها قد وصلنا لـ "لبس البوصة تبقى عروسة".
في يوم آخر، كنت انتخب. ونفس النظارة التي لا تفارقني مثبتة فوق أنفي. وجدت من تناديني. امرأة شابة، سمينة وبشوشة. رحبت بي كما لو إنها تعرفني منذ زمن. لم أتبين ملامحها في البداية. ثم عرفت إنها جارتنا الأخرى. الفتاة الشقراء التي كانت ترتدي بدلة الكاراتيه ولديها حزام أصفر لم أعرف مدلوله حينها. كان والدي يعمل ليلا ونهارا في عملين منفصلين تماما ليوفر مصروفات مدرستي الخاصة التي كانت من مدارس الصفوة حينها، ولم يكن أمر الألعاب الرياضية واردا حينها.
كان جسدها الضخم في مقابل بدلة الكاراتيه ذات الحزام الأصفر يزعجني. لم ابتسم لها أيضا، وودت لو أسألها أين البدلة الآن؟ هل تحتفظين بها في صندوق صغير أسفل فراشك؟ هل تركتيها في دولاب حجرتك في منزل والديك؟ لماذا رضيت بالزواج من ذلك المحدود الذي حولك لذلك الكائن الدائري الأبعاد؟ أهو "ضل راجل ولا ضل حيطة" أم "الراجل ما يعيبه إلا جيبه"؟
عندما كنا أطفال، كانت تتجنبني أثناء مرورها بجانبي، أو هكذا خيل لي. كانت تعتز بجمالها الهادئ وتعبر عنه بطريقة أقل صخبا من الجارة الأولى، ربما لأنها أكثر ثقة. الآن ترحب بي باهتمام وأنا اتفرس في ملامحها التي تغيرت. وتذكرت إنها أصغر مني بسنوات، ولكني الآن أبدو الأصغر. خفت ابتسامتها رويدا رويدا عندما لم أبادلها أياها وشعرت بندمها على تحيتي. وأردت أن اعتذر بشدة، ولكني لم أستطع. وعندما ادارت ظهرها لي مبتعدة بخطى متعثرة، لم أكن أرى سوى ظهر طفلة شقراء جميلة وفي منتصفه حزام أصفر يعكس أشعة الشمس.
كانت الجارة الثالثة ضيفة دائمة في بيتنا. تشكو دوما من زوجها الذي يبرحها ضربا. ولكنها ترفض الطلاق وتقول "نار جوزي ولا جنة أبويا" وتقول أيضا إنها "ولية مكسورة الجناح" ولن تستطع مواجهة زوجها بمفردها. كانت جميلة كذلك لا تقل جمالا عن الجارات السابقات. في الحقيقة كن جميعا يسكن في الناحية المقابلة لبيتي. كانت الناحية البحرية من الشارع، وكأن الهواء الرطب عجن وجوههن وأجسادهن بالحسن. أما ناحيتي القبلية فلم تنتج سوى السمراوات النحيلات القبيحات اللاواتي إذا تعززن سمعن "أدلعي يا عوجة في الأيام السودة".
كانت الثالثة دوما حزينة وترغب بشدة في احترام زوجها لها. تعرف أن "ال يقول لمراته يا عورة، يتلعب بيها الكورة. وال يقولها يا هانم يقفولها على السلالم". ولكنها لم تكن تعرف سبيل لذلك. تشكو لأمي التي تنصحها بالصبر و"إن الست مالهاش إلا بيتها" وإن عليها الطاعة حتى تسلم وأن من باتت وزوجها غاضب عليها، تلعنها الملائكة حتى الصباح.

كنت أمر بالصالة حين وصل الحوار لذلك المنعطف. لم أحاول المشاركة وابتعدت مسرعة للغرفة الأخرى. لكن لحقتني كلماتها "احلويتي!". ابتسمت هذه المرة، وأنا أتذكر العينان الجحظتان والسخرية التي كانت تلاحق خطواتي. وقول إحداهن "أيش تعمل الماشطة في الوش العكر".

نُشر في +18 - أبريل 2015

No comments:

Post a Comment